السبت، 31 مارس 2018

مخلب الصدفة
















محمد جيجاك



مضت ثلاثة أشهر على تدمير مصنعي للألبسة، قذيفة طائشة انطلقت من غرب المدينة لشرقها سقطت في منتصف الطريق على سقف مصنعي في وسط حيّ الأشرفية، وبهذا الحدث الصدفوي، انتسبت لجيش العاطلين عن العمل، الذين يزدادون كل يوم بإطراد مع عدد القذائف الطائشة التي تهطل على المدينة، عن طريق الخطأ والصح.
 بعد مرور شهر شرعت زوجتي تتذمر من عطالتي، رغم أنني حملت عنها عبء أداء معظم الأعمال المنزلية، إلّا أن زوجتي من صنف النساء المتحررات ظاهرياً، اللواتي يفضّلن الرجل القاهر للظروف، والذي يأتي بنتيجة حسب أهوائهن، تطالبني بأن أفعل شيء، أي شيء، لا يهم، المهم أن أتدارك نفاذ المدّخر من المال وأن لا أبقى أسير البيت كبغل معاق، ولأنها تعرف جيداً لا فرصة لي بإيجاد عمل والحرب في أوجها، اقترحت أن أعمل في الثورة مثل أصدقائي. قلت:
- في الثورة لا يوجد المال، وثانياً، لا مكان لشخص ملحدٍ مثلي في هذه الثورة.
 قالت توضّح ما تخمّنه أنني لا أعرفه:
-  المال يوجد في كل مكان، فقط روّض عنادك وتعايش مع الأشياء التي تكرهها
- لن أخدع قناعاتي لأجل المال؟
- الأولوية أن تحصل على المال كيفما اتفق لتعيش بكرامة، لا أن تفكر بكرامة وتعيش بذل متسول.
- حين ينفق المال لدينا سأفكر ماذا سأفعل
- الكسالى والبليدون هكذا يفكرون
- حسناً ..كما تشائين
رويداً رويداً مع تكرار موشحات زوجتي حول أصول العيش بكرامة ولو على حساب الكرامة، أصبحت عاطلاً عن الحياة، اتسعت فجوة الخلاف بيننا من جهة وبيني وبين العالم أجمع من جهة أخرى.
 الوقت كلبٌ؛ يعضّ من ليس لديه ما يفعله، أربعة وعشرين ساعة زمن يتكرر للأبد، أحوم حول نفسي مثل طاحونة فارغة، أو، كدجاجة بحَملٍ كاذب، لا تعرف أين تضع بيضها.
 ريح باردة تنفخ في ثقوب النافذة، تُحدث صفيراً حاداً، أُصغِ له ببلادة غراب اعتاد نشاز الطبيعة، انقطعت الكهرباء بعد حلولها كضيف مرح لمدة ساعة وغادرت دون أذن، لأجل غير مسمى.
 حلّ الظلام وضاق بي المكان من جديد، قرأتُ آخر عبارة من رواية "أشياء تتداعى" على ضوء نار قداحة من صفحة 154 " ليس هناك من قصة غير حقيقية، العالم لا نهاية له" طويتُ الكتاب واستسلمت لدفء مضطجعي على الأريكة، سلبتني الغفوة كلصّة اعتادت تواطئي معها، أرخيتُ حبال حواسي ونمتُ بسرعة الكوالا، دقائق قليلة ووقعتُ فريسة حلم مرعب، رأيتني في صالة اوبرا فخمة، أحاول جاهداً أن أفهم حكاية الرقصة وأفشل، فجأة أهربُ في الظلام من شيء لا أعرفه، ألهث ككلب يجرّ مزلاج ثلجي ثقيل، وإذ بي على بعد خطوة واحدة من حافة صخرية مقطوعة شاقولياً على سفح جبل "قره بيله*"، خطوة أخرى ويكون السقوط المدويّ من علو عشرين متراً تقريباً، إن لم يحالفني الحظ ويرتكز جسدي على جذع  شجيرة بلوط؛ سأتشقلب على المنحدر الطويل هبوطاً حتى يتناثر أشلائي في الطريق لمستقر نهر الأسود، التفتُ خلفي حيث طريق العودة الذي أتيت منه، رأيت ثلاث ذئاب تلمع عيونهم في العتمة، يلهثون على بعد قفزة واحدة بمقياس تضوّر جوعهم، فتحت عيني لإنعدام حلّ للهرب، ولأتأكد من وجود الذئاب بالفعل، رأيتُ زوجتي تحمل شمعة ثخينة وتتنقل من غرفة لأخرى.
تعلّمت من "غوستاف يونغ*" عادة تفسير أحلامي بطريقة علمية، وبدون ثرثرة بوحها لأحد، بناءً على نظريته "الحلم هو اللغة الخافية للإنسان" أي أن الحلم محاكاة عميقة لأحداث جرت مع الإنسان في حياته اليقظة، مفردات الحلم هي ملاحظات دوّنتها الحواس والعقل والتخيّل، يتم معالجتها وجدانياً في مختبر متحرر عن أية رقابة شعورية، والذكي يتعرّف على نفسه من خلال أحلامه. كان حلمي يشير لي بأنني شخص لا أحبّ المواجهة والمقاومة، إنما لدي طرق أخرى للحلّ.
تنفست الصعداء بعد الإطمئنان على نجاتي من أنياب الذئاب، ورحتُ أتابع بنظرات متسائلة شغب زوجتي.
 كانت توضّب أغراضها الخاصة جداً في حقيبة سفر كبيرة، قبل أن تغلق سحّاب الحقيبة الممتلئة بالألبسة، رفعت الشمعة صوب اللوحة التشكيلية الوحيدة المعلّقة على جدار بيتنا، أهدانا إياها فنان حلبي مشهور بطريقة ملفتة للنظر أمام زوّار معرضه في صالة الخانجي، الفنان معارض راديكالي للنظام الحاكم في البلاد، وهذا كان دافع زيارتي لمعرضه، إلّا أنني انتكست حين قرأت على بروشور معرضه " تحت رعاية رئيس الجمهورية يقيم الفنان ... معرضه!". تسائلت في نفسي مستغرباً، "كيف لفنان قضى سنوات في المعتقل لمعارضته رأس النظام ويفتتح معرضه تحت رعايته؟".
لم أبحث عن جواب لسؤالي، لأنني أعرف مسبقاً الثقافة التي تربينا عليها وعلمتنا مهارة تبرير الشيء ونقيضه في آن واحد.
 في الحقيقة اللوحة الهدية، كانت بمثابة مغازلة فجّة لزوجتي التي أغرقته بأسئلتها الغبية، زوجتي تحاول جاهدة إظهار إهتمامها بالفن والفنانين؛ والفنان يجيبها كمراهق حظي بإمرأة جميلة تلاحقه كفراشة، الفنان العجوز ذو الشارب المعقوف للأعلى كذيل فأر مذعور اكتشف بسهولة غباء زوجتي في الفن، إنما طاب له ثرثرتها الأنثوية، أوجد الفنان المتصابي بسرعة وذكاء حلاً لتوطيد علاقته مع هذه المرأة الجميلة والغبية "ربمّا هذه الصبية الشقراء تنفع لأشياء أخرى في الحياة" استطعت أن أقرأ هذه العبارة في عينا الفنان الزائغتين، الغائرتين، ركض إلى المكتب كطفل، جلب ورقة صغيرة وقلماً، كتب عليها "مباعة" بخط مقروء غير فني، علقّها على زاوية اللوحة السفلية. وقال لنا بتهذّب مصطنع "هذه اللوحة باتت من مقتنياتكما، يشرّفني التعرف بكما كصديقين نادرين". نظرت زوجتي في عيوني مباشرة تستشف رد فعلي بينما قرأتُ في عيناها فرح طفلة بليدة، ابتسمت بسخرية وشكرت الفنان بنبرة رسمية.
 كنت أراقب تطور الحالة العاطفية للفنان بصمت، أضيف لذاكرتي ملاحظات عن سفالة الإنسان حين تستحوذ عليه الغريزة، ويتحول لحيوان حقيقي، أعلم أن الغريزة تسحق المعرفة في اللحظة الحاسمة، تجعل الإنسان ينحدر من سموه المعرفي العالي لكلب يلهث وراء شهوته. بالمقابل حبّ الظهور لدى زوجتي تدفعها لارتكاب حماقات لا ترتق مع الزمن، دائماً تكون بسبب جمالها وغبائها فريسة نوايا جنسية لمشاهير ووجهاء المجتمع سَفلة، ولا تتعظ.
 انزلت اللوحة عن الجدار برفق، لفّتها بقميص نومها وحشرتها عنوة في الحقيبة، راحت لتجلس أمام دولاب المكياج قرابة الساعة، تحت ضوء ثلاث شمعات أنهت تنضيد وجهها بمساحيق غالية الثمن، قصّت رزمة صغيرة من ذيل شعرها الأشقر، وضعتها أمام المرآة، دقّ قلبي لخطب ما حدث، أيقنت أنها قررت هجراني وتنطلق لحياة جديدة. تأنقت بلباس رسمي فوقه مانطو من جوخ إيطالي أسود، خيّل لي أنها ذاهبة إلى مؤتمر اقتصادي لتجار الدرجة الأولى، أخرجت الحقيبة الثقيلة بعناء من الباب، التفتت إليّ لتقول مستدركة، كنتُ مازلت مضطجعاً على الأريكة أدخّن وأعبث بصمتي، قالت بنبرة مهذّبة:
- أنا مسافرة إلى .
 أطبقت الباب ورائها بهدوء وغادرت، مصدرة صوت فرقعات كعب حذائها الخشبي على بلاط الدرجأ.

مرآة لوتسيرن















محمد جيجاك





كلوحٍ خَشبيٍّ فاقدِ الصلاحيَّةِ رمتني الرياحُ على سَفحِ ماءِ نهرٍ " Emme" يؤرجِحُني تيّارُ الماءِ كسكّيرٍ مترنّحٍ ينفضُ عن روحِهِ فائضَ الثَّمَل. الخشبةُ أصلُها جِذعُ شَجرةٍ، كانت ذاتَ عمرٍ لها ترتدي ألوانها في مواعيدَ صارمةٍ لا تُخطِئها. كانَ للشجرةِ أذرع وفقَ موازين ثمارها وثِقَل الطيورِ، تمدُّها للريح أَسِرّةً لاستراحاتها من تَعبِ الفضاءِ الشاسع، وأُرجوحةً لطفلٍ في المهدِ رَضَخَ لإلحاح أمهِ في إزاحة بكائهِ عن ظهرها قبل حلول دور أبيه في اتّخاذِ ظَهرِها وسادةً لرأسهِ.
مضى عامان على تيهي البليد في بلدٍ لم أكن حرًّا في خيار مجيئي إليه، أستجيب للنزق وأسلّم روحي للفراغ لتتقاذفني موجات الضياع من زقاقٍ إلى زقاق في مدينة صغيرة على مقاس ابتسامة غريب حين الزحام، ذاك الغريب الفضوليّ يحملق في الوجوه كي يتلقّف ما يفترض أنها حصّته من بشاشة الوجوه العابرة، فلا ينالُ سوى حصّتِهِ من حياديّةِ الوجوه المبطّنة بالازدراء، كأنّه نشازٌ في معزوفة الوقتِ وخطأٌ مقصودٌ ارتكبه الله في رواق مزاجهِ. شفاهُهم تتقنُ رسم الابتساماتِ بذاتِ تقنية امرأة الإعلانات على لوحةٍ دعائية لمُنتجٍ مشكوكٍ بجودته.
 أستلقي تحت شجرة الرصيف حين يكون ظلّها على مقاسِها في الفضاء، أرتادُ صمتي وأنا شاردٌ أُحصي الفراغات المتجاورة بين أوراق ضاقت برصانة هندستها فمالت لجهة ثِقل روحها، أتربّص بهطولِ لحظة صفاءٍ من أرقِ التيه لأتصالحَ فيها مع نفسي ومع الآخرين الذين لا أعرفهم. أعود لبداية الجولة بهدف مختلف عن سابقاتها، أبحث عن مقهى رخيص قذر كما مقهى الموعد في حلب، لا يهمّني إن كنت أعرف أحدًا فيها أو لا، لا يهمّني إن كان أحدٌ في انتظاري هناك أو لا، لا يهمّني إن توقعت قدوم أحدٍ أعرفه أو لا، ما يهمّني ألا يحدّق بي زبونٌ بلؤم كما كان يحدّق بي رجل أمنٍ منتحلًا صفة مثقفٍ في مقاهي بلدي، ما يهمّني ألا يسألني فضوليّ، من أين أنتَ؟ لِمَ أنت هنا؟ ما يهمّني أن أجلسَ خلفَ نافذة الواجهة وأعدّ المارّين، أتساءل عن اختلاف تعابير ملامحهم، أتساءل عن أذواقهم في اختيار ألبستهم، بينما في العمق أفكرّ بأشياء لا صِلة لهم بها.
الطريقُ الذي لا ذاكرة لديه عن وقعِ أقدامي، سأسير في ذات الطريق في كل مرّة مترنّحا، رغم يقظة حواسي الستِّ. هكذا دائمًا تخطئ قدمي اليسرى في تقدير يقظة أختها.
تقودني خطواتي المتعثرة إلى أمام تمثال Löwendenkmal حيث المكان المفضّل لصديقتي الأريتيرية التي كلّما شدّها الشوق للغياب مرّت لتلقي نظرة الوداع الأخير على الأسد الملقى في اضطجاعه الأخير الذي تحجّر الرمح الخشبي في خاصرته فخرجت روحه على  شكل ابتسامةِ ألمٍ أبديّة، نتبادل التحيّة بعربيّة ركيكة ونُكمِل الحديثَ بألمانيّة أكثرَ ركاكة، ونعتذر من بعضنا لعشر مرات في كل لقاءٍ عن جهلي بلغتها التغرينية وجهلها بلغتي الكردية. تصادقنا في شارع" بيلاتوس"، كانت السماء تنزّ رذاذ ماء خجول، جمعتنا المصادفة أمامَ واجهة محلٍ فاخرٍ، كنّا ننظرُ للزجاجِ الذي يَعكسُ صورتنا ثمّ ينظرُ كلّ منّا إلى وجهِ الآخر مستغربًا! اكتشفنا أنّ ثمّة عدمَ تطابقٍ بين الصورة على الزجاجِ ووجهنا في الواقعِ الّذي يعكسه، ابتسمنا لاكتشاف الخدعة ثمّ ولجنا أقربَ مقهى لتداول النظر في وجهي بعضنا بعضا.
   في كل لقاء تكرّرُ صديقتي السؤالَ ولا تنتظرُ مني الإجابة:
- لماذا صورتنا المعكوسة في مرايا هذه المدينة لا تشبهنا؟ أقول لها:
- هكذا هي المرايا التجاريّة الخادعة، تعكسُ ما يطيب لها. تضحكُ صديقتي وتقول بحزن:
- نحن بضاعة بلا زبائن، طغاة بلادنا عرضونا على الأرصفة الغريبة للبيع ولا يحاصصننا الثمن. أردّ:
- صدقتِ يا بنت بلاد الزيلع
 تتجهّمُ في وجهي مُستنكرة تحريفي لنسبِ بلادها، تقول معترضة:
- أنا ابنة أريتيريا، أريتيريا الإغريقية وليس زيلع العربي.
أسألها وما الفرق بين هذا وذاك، ربما مرّ بأرضكم صينيّ وأطلق على تلك البقعة المنسية اسم " تشو بيغ يون"؟ تبتسم لي صديقتي الأريتيرية المسماة بـ "Abraha " أقدمُ ملكٍ خاضَ جدلًا عادلًا لأجل معرفة حقيقة الربّ، قالت بنبرة مهزوم:
-أنت شيطانٌ تأتي الأمور من آخرها، بوجودك أشعرُ أنّ الأرض كالفضاءِ بلا حدود، بلا منغصات في تضاريسها، بلا مفردات تحيّرني في دلالاتها، بلا إله يحيلني لجهة مقدسة لأديرَ ظهري للجهات الأخرى، بلا ألوان تخضعني للمفاضلة، بلا ...، أُسكِتها بقُبلةٍ مُحكَمة، كنتُ قد حكتها بنسيج من الضوء وهواء البحر قبل معرفتي بها، قُبلة كانت تنفع لأيّ امرأة تشبهها، أمسكُ يدها وأقول:
-تعالي نسيرُ في شوارع Altstadt الضيقة دون أن ننظرَ في واجهات المحلات الفاخرة.
.................
- لوتسيرن: مدينة سويسرية صغيرة

يوم صاخب









محمد جيجاك


هي الحكايةُ ذاتُها في كلِ صباح.
في البداية، مع أول بزوغ الضوء، أفترض أنّي أملك احتمالات كثيرة، مقترحات ثريّة، أُداولها مع نفسي قبل النهوض من الفراش والوقوف على قدميّ صاحيًا، قبل صنع القهوة، قبل تناول سيجارتي الأولى بجوار رأسي، غالبًا أدخّن سيجارة عبثًا قبل نهوضي، قبل مغادرة أولادي مع أمّهم مع كامل ضجيجهم إلى المدرسة، قبل فتح نافذة غرفتي لتفقّد سماكة الثلج، قبل تجرّع إحباطي الصباحيّ من المشاهد الهندسية ذاتها لدور بليدة، لا تفكّر بالتّمرّد على خطوطها المستقيمة. منذ أوّل صباح لي في هذه القرية قبل سنتين، لم تتغير ملامح أيّ مشهد من جهات بيتي الأربعة، الأشجار المرصوفة على منحدر الجبل على حالها، بالرّتابة الغبيّة ذاتها، يأتيني خرير ماء النهر بإيقاعه المعتاد منذ الأزل، الذي يذكّرني بشخير جاري السّمين في حلب كلّ ليلة خميس؛ المسكين كلّما عاشر امرأته الّتي لا تقلّ عنه وزنًا واتّساعًا في مساحة الجسد، يخور كالثّور، كأنّه يقتلع جبلًا من جذوره، ثمّ يروح يصفّر بخشونة في نومه ألمًا. في السابعة والنصف ودقيقتين ستمرّ المرأة ذاتها الرصينة في خطوها، مرّت مائة مرة من أمام نافذتي ولم أرَ وجهها لسوء حظّي وحظّها، أفتح النافذة بعد تجاوزها مستقيم نظري من النافذة بثلاث خطوات، فأتبعها بنظراتي المُحبَطة، حفظتُ كل تفاصيلها؛ قامتها من الخلفِ، شعرها الأحمر القصير، الذي بالكاد يلامس أعلى كتفها، مقاس استدارة مؤخرتها الصغيرة، مساحة المثلث التي ترسمه بين ساقيها حين تبعد قدمها عن أختها. بكلّ تأكيد هي لا تعرف مقدار اهتماميِ بها، ولا أنّ هناك كائنًا حفظ مساحة كتلة جسدها في هذا الفراغ الهائل، ربّما تعرف أنّ غريبًا ذا سحنة سمراء يسكن هنا، قادم من جغرافية بعيدة، لا تكلّف نفسها عناء معرفتها ولا البحث حتى عن تلك البلاد على الخريطة المعلّقة في ساحة القرية، أصلًا لا يهمّها أن تعرف عنّي شيئًا، ولا يدفعها الفضول لمعرفة أنّ هذا الغريب الأسمر المُحبَط من كل تفصيل في الحياة الذي يعرف عنها ما لا يعرفه أهلها، جارها، صديقها، حبيبها، أراهن على أنها ستُدهش إن عرِفت أنني أحفظ مقاس خطوتها حين يهطل المطر، حين يرتدي رصيف مسارها ثوب الثلج، حين تزقزق العصافير فوق الغصون التي تمرّ من تحتها.
هي الحكاية ذاتُها، في كل صباح!
كنتُ قد أدرجتُ الكثير من البنود لممارسة أنشطة صاخبة في هذا اليوم المثلج، لمناقشتها مع نفسي أثناء شربِ القهوة وحيدًا؛ مثلًا: بعد قليل سآخذ حمّامًا بماء فاتر، سأنتقي ألبسة متناسقة الألوان، وفق القيم الجماليّة لما قبل ما بعد الحداثة، حذاء على لون قبّعة، لديّ أحذية بألوان متعدّدة، لكن ليس لدي سوى قبّعتين؛ واحدة سوداء أتيت بها من حلب، وأخرى بنّيّة اللّون اشتريتها بفرنك واحد من سوق اللّصوص في برن. كل الأحذية من غير هذين اللّونين أرتديها حين أكون حاسر الرأس، رأسيَ الأصلعُ يناسبه كل ألوان الأحذية. سأحفّ ذقني ببطء وعناية، ليس كما كنت في حلب مستعجلًا بلا أدنى سبب، سأنزع بملقط سيّئ الشعيرات المتطرّفة عن مسار الشفرة، في أعلى خدّي، ثمّ أسير في الشارع الرئيس للقرية تائهًا، كأنّي في صحراء بلا بوصلة ترشدني للجهات، سأستقلّ قطار الساعة الثامنة إلى مدينة لوتسيرن، لن أسلّم عينيّ نافذة القطار مثل كلّ مرّة، مللتُ النهر الذي يوازي مسار السكّة حتى تخوم المدينة، مللتُ ألوان الأشجار في كلّ الفصول، مللتُ مشهد أربعة غزلان في فيرتن شتاين، وأَنف اللّاما المرفوع الرأس أبدًا خلف سلك شائك في فولهووزن، سأصطحبُ معي رواية بالألمانيّة لهرمان هيسه، تلقّفتها أمس على رصيف النفايات في مدينة تون، نظر إليّ صديقي مندهشًا؛ كيف أتجاهل مكواة براون جديدة وأختار كتابًا ورقه أصفر من بين النفايات! سأمثّل في القطار دور القارئ كما يفعل أهل البلد الّذين لا يهدرون وقتهم هباءً، بالتأكيد لا أحد من الركّاب سيعرف إن كنت أجيد الألمانيّة أم لا، أعلم أيضًا أن ليس لدى أحد حفنة فضول الذباب ليسألني عن ذلك. نعم... سأريهم-عن قصد- أنّني أفعل شيئًا ما مثلهم، لستُ عاطلًا عن الحياة كما قيل لهم عنّي قبل وطء أقداميِ بلادهم. سأمشي ببطءٍ فوق جسر كابيلا الخشبيّ، لن أنافس السّيّاح اليابانيين على مساحة ضئيلة فوق الجسر لألتقط صور سيلفي وخلفي البحيرة، سألجُ المدينة القديمة من البوابة التي كان يدخلها ريلكه ذات تيه، سأنظر بانبهار الخبير لمكامن الجمال في كل المباني العتيقة، أتصنّع قراءة موجز تاريخ كل مبنى المثبت على لوح فضّيّ أمام أبوابها العريضة، سأوحي لكلّ عابرٍ يلاحظني بأنني شخص يعرف ما في الحجر من قيم ثمينة من أسرار في أنفاسها لم يبح بها اللّئام من المؤرّخين. فأنا من بلاد ما زال علماؤها، و فقراؤها، ولصوصها، يحفرون الأرض بحثًا عن حصوة تقول لهم سرًّا جديدًا عن تاريخ بلادهم السحيق في الأزل، مع اكتشاف أنّ ثمة برهنة على كذب ما كتبه المارقون فوق أرضها، سأعرجُ صوب مسرح فاغنر، كزبون شغوف بالموسيقى، سأطّلع على البرنامج الشهري في الواجهة الزجاجية، ستراقبني عجوز الريسبشن من فوق نظّارتها، ستنتابها دهشة طفيفة، كالعادة بسبب سواد سحنتي وهندامي المتواضع، لن تسألني إن كنتُ أبحث عن موعدٍ جديدٍ لنشاطٍ مسرحيّ أو أمسية موسيقيّة في هذه المدينة الصغيرة، أو إذا ما كنتُ من محبّي فاغنر المجنون، ولديّ فضول مختلف عن أقراني اللاجئين، ستظنّ أنّي أخطأت العنوان، والمكان اختلط عليّ بين مسرح موسيقيّ راقٍ أو نادٍ ليليّ رخيص، لا سيما بالقرب من الواجهة الزجاجية صورة امرأة نحيلة، عارية تمامًا، تبان كل مفاتنها، لكن وجهها حزين، ولا تحملق في ناظرها بفجور بنات البورنو. أعلم أنّ أهالي هذه المدينة ينفرون من المجانين والمشردين واللاجئين من الدول النامية. ذات صدفة في القطار جلست بجواري عجوز متّقدة الذاكرة، في سياق تبادل المعلومات الأوليّة للتعارف بيننا قالت:
- أنا معجبة بقصص ألف ليلة وليلة وأساطير سندباد!
فأردت ردّ الجميل جميلين على اهتمامها بالثقافة الشرقيّة، قلت:
- يعجبني ريلكه ونيتشه وغوته وهيسه وريتشارد فاغنر.
حدّقت في عينيّ بارتياب، بترت الحديث بموافقة:
- ja ja
ثم سلّمت وجهها نافذة القطار ولم تلتفت إليّ بعدها.
أمّا عجوز الريسبشن في مسرح فاغنر ستبتسم لي بودّ مصطنع لاحتمال ضعيف سيراودها؛ ربما أشتري تذكرة لحضور حفلة هذا المساء، الغد، أو مساء الغد. أجمل ما في هذه المدينة هنّ موظفات المبيعات في المحلات التجاريّة، يبتسمن بسخاء مفرط للزبون، حتى يخال الزبون أنّها ورثت هذه الشركة الكبيرة على غفلة منها عن جدّها الّذي لا تعرفه.
بعد انتهائي من المدينة القديمة سأتدّرجُ صوب رصيف البحيرة، المطاف الأخير لي، ووجهة كل سائح في هذه المدينة، هناك لن أجد حتما من يجالسني، سأجلسُ على طرف مقعد متطرّف، أمام تمثال أرنولد أوت الشاعر الذي لم أقرأ له جملة واحدة، بمصادفة ذات ضياع لي اكتشفت تمثال هذا الشاعر ابن لوتسيرن! سأترك مساحة واسعة من المقعد لعابر تعِبٍ يريد استراحة قصيرة مثلي، سألفّ سيجارة تبغ رخيص ببطء عجوز على عتبة ولوجه جنّة الزهايمر، سأنظرُ طويلًا كأبله حالم في تفاصيل جبل بيلاتوس، وسأحصي قمم سلسلة جبال ريغي، كما في كلّ استراحة لي في هذا المكان، المفاجأة المسليّة أنّني في كل حسبة أخلص لرقمٍ مختلف! سأُلهي نفسي بمتابعة صخب صديقي النّورس النّزِق، على الرغم من اتساع الرصيف فهو دائم الشعور أنّ العالم ضيّق عليه، يسحبُ عظمة رقبَته للخلف بين كتفيه، يُخفض رأسه كلصّ متربّص، ويزعق بأعلى صوته، كأنّه يخبر المحيطين به بزلزال قادم لا محالة.
للحظة - كما في كل صباح مضى- يشدّني السّهو لارتكاب حماقات في الخيال، بفعل سطوة قوة مجهولة، لا أعرف مصدرها، أنسى للحظاتٍ عاداتي الأصيلة، منها: إنّي لم أكن يومًا أؤمن بالخطط المسبقة والمعدّة سلفًا. ولم أُحِل سبب تعاستي للرتابة المتفشّيّة في كلّ تفصيل من وطني.
هذه القرية المرميّة بعبث لجوارِ جبال الألب أفسدت عليّ كلّ شيء، كلّ شيء، حتى الأسرار المرتّبة بتسلسلها الزمني في ذاكرتي.
أنهيت جولتي الخياليّة في مدينة لوتسيرن كما كان يفعل كيركيغارد في كوبنهاغن، إنّما أنا بلا أبٍ يمسك يدي في مشاويره داخل القصر، ويحثّني على تخيّل جمال المدينة لأنسى هول إعاقتي، لم يصف لي أحد مفاتن المدينة بلغة شاعريّة، عدتُ من رحلتي الخياليّة ببضع صور خرساء مزيّفة، وجدت لنفسها مكاناً في ذاكرتي بين آلاف الصور المزيّفة عن وطني.
الكلامُ بصيغة المفرد والجمع، التعابير الزاخرة في دلالاتها، سوء تقدير المسافات والمساحات، قياس الحرارة داخل الغرفة وخارجها، فصل الجوارب عن الألبسة الداخليّة وعن اللباس المخصّص للزيارات الرسميّة، تنسيق الأحذية بحسب ألوانها أمام عتبة الباب، مواعيد حلاقة ذقني، أناقة إلقاء تحيّة الصباح على جارتي الّتي لا تبتسم إلّا حين تردّ التّحيّة وبعد عودة شفتيها لحالتهما الطبيعية تنسى أنّي جارها، وتنسى أنّي ابتسمت لها قبل إلقاء التحية وبعدها. كل تفصيل جميل فسد من تلقاء نفسه أمام استفحال كآبتي...

الثلاثاء، 20 فبراير 2018

سؤال من قبو الحرب













 محمد جيجاك 



يسعد صباحك صديقي :
سقطت قذيفة بالقرب من بيتي في عفرين، كنتُ لحظتها في التواليت أتبول بغزارة بعد كرع ابريق شاي كبير لوحدي، تعالَ صراخ ولديّ بصحبة عويل امهما، وقع فانوس الكاز من على الطربيزة، انطفأ النور وعمّ القبو ظلام دامس، القبو البارد والقذر رتبنا فيه أثاث لإقامة مؤقتة، حيث نهبط إليه كلما سمعنا هدير الطائرات تقترب من سماء المدينة، ولأن مدينة عفرين عاصمة دولة حديثة العهد، انبثقت من عبطة الزمن، بين ركام دولة منهارة، بفضل تدهور أخلاق سادة الدول العظمى، ولأن دولة عفرين لا تملك ميزانية مالية سوى رصيد هائل من آهات الولادة، والآهات لا تنفع حتى لشراء زمور خطر ينبح ككلب مذعور قبل قدوم طائرات العدو، لذا نضطر لإبقاء آذاننا منتصبة كأرانب في غابة مكتظّة بالثعالب.
تابعتُ التبول دون رد فعل شرطي على سقوط القذيفة. سمعتُ زوجتي تقول بهمسٍ تهدي من روع ولديها "حمد لله أنها سقطت بعيدة" ابتسمتُ وقلت في سريّ وأنا أصوّب خيط بولي إلى فجوة التواليت الذي لا أبصره. المسكينة تتحايل على نفسها قبل التحايل على ولديها، هي تدركُ تماماً بأن عفرين مدينة صغيرة جداً، وشاءت رغبات الوحوش أن يجعلوا منها ساحة حرب غبية، فلا معنى لكلمة بعيد و قريب.
 البعيد؛ يعني كارثة أيضاً، حلّت ببيت أحد أهالي المدينة، قد يكون بيت صديق، أو بيت أحد المعارف، أو بيت شخص ما صادفناه في مكان عابر، ابتسمنا له دون أن نعرف بيته أين يكون. ربما ضحكنا سوياً ذات شرب شاي وأنا أشتري من محله شيئاً ما، ربما رقصتُ معه يداً بيد في دبكة واحدة ذات عرس لصديق مشترك.
القريب؛ يعني بيتي أو بيت جاري.
 المهم، أنهيتُ التبوّل وعدت للولدين أتحسس وجودهما ونبضهما كأعشى منذ لحظة سقوطه من بين ساقي أمه.
 آثرت أن نبقى في العتمة وأن لا أُشعل الفانوس حتى يتلاشى صوت هدير الطائرة. سألني ابني الذي تخطى الثامنة من عمره، والذي زاد منسوب غبائه أضعافاً إبان الحرب المفاجئة، حيث مع سقوط كل قذيفة أو صاروخ يتعمق غباءه درجة، لا سيما في أسئلته :
 - ما شكل القذيفة التي سقطت تواً بابا؟
أجبت: لا أعرف.
ربما نظر إلى وجهي عبر العتمة ليكتشف عمق جهلي، أو ليتأكد من أنني شخص غير صالح للاستعمال الأبوي. نعم يا صديقي، في الحرب، الرجال يتحولون لحيوانات غبية، والنساء يتحولن لنعجات خرقاء، لا يصدر عنهن سوى الثغاء النزق، وخليط بين الدعاء والشتائم. تركني الطفل الذي ورث نصف غباءه مني تحديداً والنصف الآخر لا أعرف من أين! ذهب لأمه زحفاً ليسألها ذات السؤال.
أجابت أمه التي هي زوجتي، والتي لم أسمع ضحكتها منذ شهر، حيث تنقلب لحمقاء من الدرجة الأولى حين الأزمات الكبيرة، في هذه اللحظة المعتمة من الزمن، لديها تفسير واحد لا غير لهذه الحرب " الله يكره الكرد، يا حيف على كل حصّة عبادة أديّتها لأجله قبل الحرب".
 شرعت توصف للولد شكل القذيفة:
- أنها كرة مدوّرة على شكل بالونة، لكنها محشوة بالمسامير وقطع حديد حادة وديناميت، ما أن تقع على الأرض تنفجر وتتناثر المسامير وشظايا الحديد.
صمت الطفل للحظات، همهم وسأل :
- لكن كيف يحشون البالونة بالمسامير والحديد دون أن تنشقّ وتنفجر بين يديهم؟
- هي بالونة من حديد.
سارعها الطفل بالسؤال:
- لكن كيف هي من حديد وتطير؟
- هي لا تطير، الطيارة ترميها من السماء.
طيب .. قال الطفل، صمت لبرهة ثم سأل :
-الذي يرميها هل يعرف بأنها ستنفجر وستقتل الناس على الأرض؟
- بلى ..يعرف.
- ولماذا يريد قتل الناس.. ماما؟
-لا أعرف !.
حين نطقت ام الطفل التي هي زوجتي بعبارة لا أعرف شعرتُ بأن عقلها عاد لصوابه. كنا قد اتفقنا بعد أن كبر طفلنا الأول وتمكن من صياغة الأسئلة بأن أفضل إجابة لأي سؤال يطرحه وتكون في الإجابة احتمال كره انسان آخر هي "لا أعرف"، لم توافقني زوجتي في حينه، قالت محتجة "الطفل سينمو على غباء، يجب أن نجاوبه ونرشده للمحبة"
عاد الطفل لسؤال أمه:
- آنه .. لماذا الكرد والعرب والترك يكرهون بعضهم البعض؟
أجابت الأم بنزق وغضب:
- لا أعرف ..لا أعرف.
سمعنا دوي قذيفة أخرى أكثر قرباً من الأولى، ثم ساد الصمتُ في القبو المُعتم وخارج القبو أيضاً حتى الصباح
هل سمعت يا صديقي ، لدي طفل معتوه لا يكف عن الأسئلة الغبية عن هذه الحرب الغبية. ماذا أفعل كي أخرسه؟

الجمعة، 26 يناير 2018

أجير في الحياة





عنوان الكردي" أجير في الحياة" 
     _ محمد جيجاك _

أجير في سوق الهال
أجير في سوق الحرامية
أجير في سوق المدينة
في سوق النسوان
في سوق الذهب
في مطاعم بستان كل آب
في الفنادق القذرة
في الحدائق بجوار صندوق البويا يقيس درجة انعكاس ضوء الشمس عن أحذية المارة
أجير في المقاهي الثقافية ومقاهي القمار التي يجيد لعبها بمهارة الخاسر أبداً
أجير في اتحاد الكتاب
في نقابات العمال
في مؤسسات المجتمع المدني
في الأحزاب الماركسية واللاماركسية
في صياغة برامجه التحررية
في المعارضة السياسية
أجير لدى النظام الأشد عنصرية وديكاتورية
لدى خصومه الأقل أخلاقاً
أجير في الصحافة المكتوبة والمقروءة والمرئية
في دور النشر
في الشعر الفصيح، الثوري والعاطفي
في الرواية  والقصة القصيرة جداً والنص المفتوح كساقي امرأة للأعلى تبتهل لله
أجير في الفلسفة والشذرة الفلسفية
في التفاءول
في التشاؤم
في العقلانية
في الأخلاق
في الحداثة وما بعدها
أجير في حمل السلاح لأجل قضيته

أجير في طريقة دفن شهدائه
أجير في حرب الأخوة
في اختراع وسائل الهرب من قضيته
أجير في الحب
في الكره
أجير في عبادة الله
في إنكار وجود الله
أجير في حياته على أطراف المدن الكبيرة
أجير في ترتيب مقابره
أجير في موته على رصيف الزمن

الأحد، 19 نوفمبر 2017

شذرات طائشة



                                                   شذرات طائشة




2

لست شاعراً 
لكن أستطيع أن اهمس لك بأن المشهد الجانبي لوجهك يشبه ظل غيمة ربيعية على مرج أخضر. 
لست كاتب قصص قصيرة 
لكن سأحدّثك عن ما جرى في القطار بين عجوزين جمعتهم الصدفة بعد فراق نصف قرن .. ظلّتا تحدقان ببضعهما حتى ابتسمت احداهما فأدمعت الأخرى وصاحت بصوت مخنوق ..ماريا ايزابيلا ! ماريا فتحت ذراعيها كبديل تعثرها في النهوض ترحيباً بسبب سقوط عكازتها من متناول يدها، جحظت عيناها حتى احتضنت صديقتها القديمة وتشمما بعضهما مثل كلبين..تصوري، كانت ماريا محتفظة بذات ابتسامة صباها كتذاكر من أصدقاء أحبتهم !
لست روائياً
لكنني أستطيع التحدث مطولاً عن ابتسامتك الرمادية وعن سر ضوء عينيك الخافت و ثدييك المترهلتين قبل أوانه
لست فليسوفا
لكن أستطيع أن أصمت طوال حضورك . أفكر بجسدك النحيل وأنا أتابع بنظراتي عامل النظافة كيف يتلقف أعقاب السجائر بلطف وأناقة من أطراف مقاعد الحديقة



3


المرأة التي لا أعرفها
رأيتها صدفة
صباحاً في محطة القطار
مساءاً على جسر كابيلا
بعد منتصف الليل في خمارة صغيرة 
على صفحة الفيس بوك، انستغرام، تويتر
لا أعرف ..
تلك المرأة تنفع كقطع تبديل لحلم قديم


4


ولأنني أجيد انتظار اللا شيء
كل امرأة مرّت من حيزي على ضفة البحيرة
تخيلتها دريئة متحركة
وكل رجل عبر على خلاف اتجاهه
اعتبرته خصماً لي في المبارازة 
على إصابة الدائرة الحمراء الكبيرة
ولأنني أجيد خسارة كل شيء
أرمي سهامي ولا أنتظر النتيجة



5




أعضّ أصابعي للعشرة تريثاً
وأرتكب الحماقة
ثم أعضّها مرة أخرى ندماً
رغم لذة الحماقة


6


بأظافرها تحرث ظهري
تنفخ الهواء لينبت لهاثاً
النجوم تتهاوى ثمرة ثمرة


7


كلما مررت بمحطة القطار رميت بقُبلة في الفراغ
لينداح الهواء الراكد وتلامس أشلاء قبلتي خد امرأة ما
مثلي تماما ..ليس لها أحد تودّعه أو تستقبله


8


المرأة ترغمك على كتابة الشعر والغناء حين لا تمنحك فرصة للعواء



9


أنا وأنتِ ..
كساعتين معلقتين على حائط واحد
تشير كل واحدة لوقت مختلف
لكن عقرب الثواني مواظب على عمله لا يبالي أبداً بفرق الزمن بيننا


10

يلزمني الكثير من الحكمة حتى أفهم غموض عباراتك المنبعثة من عينيك ورجفات شفتيك..
هل تقصدين استحضار لحظات منكسرة من بين ركام الذاكرة لترميمها،
أم شغف لاحتضان الموت الذي انتظرتيه طويلاً والآن ماثل بين يديك ؟


11

كالمطرقة والسندان نتحاور كل ليلة 
لا أنا مسمار من فضة ولا أنت جذع شجرة الشوح


12

أخطأت حين قلت لها أنت فراشة، فصرتُ أطاردها مثل طفل يبكي حليب أمه 


13


إن توقفت عقارب الساعة عن الحركة يتوقف الزمن تماماً عن السير إلى حتفه، تماماً ، كما أصابعك حين تتوقف عن العبث بالوقت في جثتي.

14

المحكومين بالمؤبد أملهم الوحيد بالنجاة هو حدوث زلزال يحطم جدران السجن تماماً مثل الذين يشعرون بالحياة كصخرة جاثمة على صدورهم 

15

صادفت إمرأة في زحمة فراغ المكان كما يصادف كهل مسالم طلقة طائشة في زحمة حرب العصابات، امرأة، عبرت المكان وجسدي بإبتسامة حارة كمقاتل غرّ انتشى بتوصيبته المحققة 

16

ليس وجودي في الحياة فقط لأحب أو أكره ..بل لأعيش كيفما اتفق .. وفي الطريق إن صادفت ما يستحق قول في الحب أو الكره قلته دون تردد ..الحالتين سواء ..تعبير عن شعور صادق 

17

كثافة وجود الحمقى لا تجعلني كئيباً، إنما صامتاً حين أشرب الخمر، أو ثرثار بلا طائل عن اللامعنى

18


لا أشتر رواية لأقرأ قصة مأساوية أو حكاية حب أصادفها واقعياً كل يوم .أشتر كتاباً يرشدني للصمت حيال تلك القصص


19


لا أقرأ كتاباً غصباً عني كل كتاب قرأته حتى النهاية كان غصباً عنه ..
الكتاب الذي يقرأ لإعتبارات خارج نصه كمن يرغم كلباً على صيد لا مزاج له فيه 


الجمعة، 17 نوفمبر 2017

شذرات طائشة



                                     


                                                                              شذرات طائشة


ذات مرّة قلت لها أنتِ غزالة، فصارت تأتيني في كل شوق وثباً، ترفع ابطها لأدوخ في العنبر


1


الملتزمون بالخطوط العريضة للعيش الكريم " أمن اجتماعي- أمن مادي" هؤلاء الأكثر إفساداً لجمال الحياة ..لولا الفوضويون والمغامرون لكانت الحياة نعل حذاء تشقق عطشاً تحت شمس حارقة 

2

الإنسان خطّاء والذي لا يكرر أخطائه حمار ..
التاريخ شهد عشرين ألف حرباً " انسانياً " والنتيجة لم تتغير ، إنما الحمار لا يقع في ذات الحفرة مرتين، لأنه حمار لا يكرر خطأه

3


لو لم تكن الماريغوانا وتدرجاتها مباحة في الغرب لكان الإنسان الغربي أكثر شراسة من أي إنسان آخر في العالم.
لو لم تكن الفلسفة وتفرعاتها مباحة في الغرب لكان الإنسان الغربي أكثر طائفية وعنصرية من أي إنسان في العالم 
لو لم يكن الجنس مباحاً في الغرب لكانت سجونهم مليئة بسفاحي القربى ومجرمي غسل العار 
لو لم تكن عزلة الفرد مصونة في الغرب لكانت شوارعهم مليئة بالمجانين والعصابيين والمقهورين
لو لم تكن الموسيقى أكثر فن مقدس في الغرب لكانت أجراس الكنائس المسبب الأول للهستريا وتلوث السمع ..


4


حين يملّ الله من مراقبة الرتابة في أوروبا ينثر الثلج ليحجب كل التفاصيل بلون البياض..

5

هناك نوعان من التكابر، الأول، هو التخلي عن أي شيء بسهولة مهما كان قيماً، والثاني، هو اقناع الآخر عنوة بأنك كبير ولو بإجراءات مرنة شديدة اللطف والتهذب 

6

هناك أشخاص تنفر منهم بمجرد أن تتفرس لحظات في صورته قبل أن تتكلم معه بأية كلمة، وهناك أشخاص تكرههم ولا تستطيع التعبير عن كرهك له خجلاً من محبته المفرطة لك لدرجة إن قال لك مرحبا وهو يبتسم تشعر وكأنه يقول لك " كس أمك" لكنك تبلع ريقك وترد " أهليييين " على طريقة زياد الرحباني، وهناك أشخاص ترتاح لوجودهم بقربك حتى لو كان عابساً طوال الوقت مثل امرأة عانت دهراً من كارثة القذف السريع لزوجها والخجل غير فيها مسار التعبير عن سخطها من الحياة، وهناك أشخاص حلوين على بعد كيلو متر واحد منك، إن اقترب خطوة أو ابتعد خطوة أفسد جمال حضوره

7

من السهل أن تكتب عبارة غامضة ويتسابق على فهمها الفهمانيين لكن من الصعب أن تكتب عبارة واضحة ولا يفهمها أحد 

8

حين كنت مراهقاً ما أن ألتقي بالصدفة بكاتب أو شاعر أو سياسي أو مطرب أعراس أشعر وكأنني حصلت على جائزة كبرى، ومنذ أكثر من عشرين سنة ينتابني ذات الشعور كلما خرج من حياتي واحد من هؤلاء 


9

حياتي عبارة عن عدد لا يحصى من المشاكل الصغيرة إن رصدتها دفعة واحدة رأيتها كجبل شاهق يغر بالسقوط الحر انتحاراً من أعلى قمته، وإن نثرتها في الفضاء صارت ضباباً كثيفاً، أشق دربي فيه بعناد بغل في حراثة أرض بور.
الحب تحايل على مرارة الوقت، والكره تسلية الحمقى لطرد الموت الآتِ في أوانه.



10


من السهل جدا ان تكون محبا أو على الأقل أن تتظاهر بحب الآخرين طالما ذلك لا يكلفك سوى كلمة عابرة تطلقها دون عناء واضطراب في مشاعرك الحقيقية ..
لا تمنح ثقتك للذين يستسهلون اطلاق مفردات عاطفية هم اكثر الناس متقلبون في عواطفهم .



11


عودت نفسي ألا أتحدث بأمور يعرفها الجاهل قبل المثقف، بل أتحدث بأمور لا يطالها الجاهل وينبعص منها المثقف

12

لم أقل لأية امرأة أحبك وللتعبير عن ذلك حين الوجوب أثرثر بألف قصة مفككة الفكرة وبسرد رديء كأنني أمام البابا أطلب الغفران عن ذنب قديم قد نسيت تفاصيله

13

أهم درس نلته من فشلي في الكتابة هو أنني حين الكتابة لم أغادر الأرض لمترين على الأقل أعلى من "إيفرست"، ولم أحرر رقبتي من رسن "عقدة" البحث عن المعنى النبيل، كتبت في المستقنع ذاته، مستعيناً ببوصلة مستعملة، إن تعطّل مؤشره أو عمل بصواب فهو يشير لجهة اللا نجاة من القبح.
بالمناسبة الكتابة الناجحة ليست تلك التي تحظى بمديح عال من القارئ إنما تلك التي تشعر كاتبه فور إنتهائه من الكتابة بأنه لم يعد لديه شيء ليقوله للعالم


14


يقول لي صديقي السوداني بفضل الماريغوانا أستطيع أن ابتسم للحياة، أبتسم لوجهي المشوه في مرآة الحلاقة صباحاً، أبتسم لعصفور بحلق في بلادتي لثوان من خلف الزجاج ثم أفرغ جوفه من الخراء على شرفتي وطار، أبتسم كلما فتحت صندوق بريدي لأقرأ فواتير الكهرباء والماء والسكن والتأمين الصحي، أبتسم للبجع الناصع ببياضه يعوم على ماء بحيرة قذرة رامياً رجله الايسر على ظهره كأنه في جلسة استرخاء الأركيلة، أبتسم للعاهرة التي ضاجعتها في ليلة الأمس وفي هذا المساء عبرت بقربي على رصيف فارغ كغريبة لا تعرفني، أبتسم لخبر عن صعلوك استثمر ألام وحماقات معارفه ليكتب قصصاً طريفة فنال جائزة نوبل، أبتسم لإمرأة تحضن كلبها لتدفئه من لسعات البرد وتنظر لي على أنني كائن نكرة لا أستحق بصقة، أبتسم لك يا صديقي لأنك تسرف وقتا ثمينا لديك وبعض رصيدك اللغوي لترشدني إلى ابتسامة مختلفة !! اسحب المارغوانا وابتسم دون أنين وضجيج .



15


أكبر وهم يستحوذ على الانسان اعتقاده بأنه ذو أهمية بالغة وأن كل عيون البشر لا تزيح عن متابعة انشطته ..ربما لهذا السبب تفشى ثقافة الكذب للحفاظ على أناقة الوهم الجميل

16

أبيخ هواية اخترعها الانسان هي الحب ..
فقط كي يشرك أخرين بموته قال لهم أحبكم 


17


الزعيم السياسي مثل الحذاء إن لم تلمعه لن يفرش لك الطريق نحو الارتقاء في المنصب

18

معشر الحمير لا يخوضون معارك جماعية أبداً لأنهم لا يعرفون دلالة كلمة الحق ...لا الحق الإلهي ولا حق الوطن ولا حق تقرير المصير ولا حق الزوجة على الزوج وبالعكس ولا حق الجار على الجار ...هؤلاء حمير ولا يعرفون الحق والحقوق ومبادئ العدالة

19



نصبت أمام الدار فخاً لفأر شاهدته صدفة في الجنينة بعد ساعتين وقع عصفور دوري بين فك الفخ، صفنت طويلاً بمشهد العصفور المشنوق، استرجعت أراء المفسرين والشارحين للحياة، من رواقية زينون إلى قدرية سنسويه إلى جبرية الجهم بن صفوان إلى عقلانية كانط وشك ديكارت وسوريالية بروتون وواقعية هيغل وذرائعية وليم جيمس و انطولوجيا هيدغر وعبثية كامو ووو... لم أجد تفسيراً روحياً أبرر بها حماقتي..أنهيت جلسة التأمل في الموت بتوبيخ نفسي على جرم اقترفته بلا سبب مقنع وليس في سياق الدفاع عن الذات، بأن الفأر كان خارج جدران بيتي يسرح ويمرح بحرية ومزاج عال لما تربصت به لأقتله

20

حتى الآن لم أصادف كلب سويسري ساخط من وجودي في سويسرا إنما صادفت ساخطون كثر من البشر المعبأ رؤوسهم بأفكار وقيم انسانية نبيلة

21

القراءة لا تُنبت في الروح النتنة ورداً إنما قد تجعل اللسان مهذباً في الكلام ليس أكثر

22


لا تأخذ الحياة على محمل الجد، وإن أخذتها لا تذهب لسوق القردة سيخلعون سروالك ليتضاحكوا على مؤخرتك، اذهب لسوق الحمير، هناك ستجد العبوس والجدية واللباقة على أتم مفاعيلها

23


لا أؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، وكذلك لا أؤمن بأن هذه الحياة هي كل شيء، هناك حصّة مفقودة من الحياة تجعلني أستكين رهبة كماعز متسلق حافة منحدر سحيق، أنتظر نسراً ينتشلني عشاءاً لصغاره أو زلزال يرجّ ثبات الصخرة تحت قدمي.. القلقون يضيق بهم أرض مستو على رحب السلامة

24


طوبى للذي أوصل العقل لمنتهاه وشرع بالعيش في فوضى الخيال ..
إلى صديقي الذي لن أسميه خشية القاصرين حساً لاتهامه بالجنون ..
حملقت اليوم مطولاُ بعصفور يعبث بالثلج ابتهاجاً، وبجانبه غراب يتدحرج بثقل سواده في حيزه ويسرق منه حفنة الفرح البارد، فيطير عالياً بلا مبالاة، خيّل لي المشهد كزوبعة ورد تفرّ من ثنايا كومة قمامة

25

برتابة حكاية مملة ينتهك نتف الثلج الأبيض حرمة سواد هذه الليلة..داهمتني بردوة مفاجئة كملمس يد امرأة تحتضر . أتابع بشغف عنكبوتاً يتعثر بقوائمه السلكية الرفيعة الطويلة جدا تسلق شاشة التلفاز . أتكاسل بمد يد العون له كي ينجح ويلج ثغر فنان مسخ يتحدث عن غد مشرق وجميل

26

الكل يتقاتلون لأجل الكرامة والكل بلا كرامة ..
بعد شوط من الحرب وبساتين من الجثث لا ينفع سؤال من بدأ الحرب ..
الإنسان مازال مسيّر بالغريزة الحيوانية رغم استعماله أخر منجزات العقل في التدبير


27


حتى المتشائم في مجتمعنا يضع ربطة عنق وعطر آزار بعد نتف شعيرات غير منسقة من حواجبه..نحن سفّهنا محتوى كل فكرة .. نحن بشر كاذبون في كل شيء ندعيه ..في التفاؤل والتشاؤم والديمقراطية والحرية والوطنية ووو

28

يقال إن لم تكن وسيماً كن غنياً بالمال
ومن لا يملك الوسامة والمال إما أن يصبح فناناً عظيماً مستهتراً أو متسولاً يشخ على أثر المعنى فوق كل رصيف 

29

النص الذي لا يجعل من عشرين قارئاً مختلفي المشارب في التذوق الأدبي يتعثرون في التأويل إنه نص غير ابداعي والكاتب يكون أقل موهبة من القارئ 

30


المرأة التي استبدلت حب رجل بحب كتاب ستعضّ قلبها ندماً بعد ترهل المعنى في أفق شرفتها ..
كما الرجل الأحمق الذي يرى في الوطن حبيبة ويقتل من يحبها في الضفة المعاكسة له منتشياً بوهم أنه يضاجع امرأة جميلة حباً وعشقاً قاتلاً 

31


الإنحياز يعني أن تغمض عين وترى بواحدة، والحياد المطلق أن ترى بعينين كل القبح في الطرفين، أما الجمال فلن تجده أبداً في ثنايا صراع القِباح

32



الأغلبية الساحقة من البشر يموتون قبل أن يدركوا بأن كل الطرق المؤدية إلى روما صحيحة وتفيد بالوصول .. فقط من أدرك لن يموت هباءا في ساحة معركة أو على مفترق الطريق

33

تلك المرأة التي لا تحب الرجال دخلت إلى غرفتها على هيئة مزهرية فوضعت كل ورودها في جوفي وهي تحمد الله على نعم الدنيا 


34

الذين استشهدوا دفاعاً عن فكرة باطلة أضعاف من استشهدوا دفاعاً عن النفس ..
غالباً تكون الفكرة الباطلة مغلفة بشعارات انسانية نبيلة
مازالت صفة الحماقة على البشر سارية المفعول

35



لا تقل لشخص هذا الطريق أفضل من ذاك، إن كنت تحبه وتريد له الخير والمتعة، قل له : كل الطرق تؤدي إلى ذاتك إن كنت تبحث عنها..


36

الفن لا غاية له سوى الجمال، إنما الفنان الذي لم تنضج روحه بعد يرضخ لرغبة المتلقي العادي فينتج فناً سطحياً واضح الفكرة ونبيل الغاية



37

لأنني لا أستطيع إصلاحه أخطاء الواقع بمعتقداتي وآمالي، لا بقصيدة احتجاجية أو رواية أعيد فيها صيانة العطب ولا لوحة ملونة أحجب فيها الشواذ في المشهد ولا قطعة موسيقى تنتشلني من صحو اليقظ..كل هذه التدابير بمثابة خدعة استبدال أخطاء بأخطاء أخرى ..
لا أستطيع إصلاح الواقع إلّا بطريقة أن أجد نفسي فيه كخطأ لا مرئي لمحترف ثقافة بصرية 



38